(8) البيت الجديد

خالد أبو شادي

سباقٌ رهيبٌ يجري بين أحياء القلوب وأمواتها، بين الذاكرين للموت والغافلين عنه، لكن كل منهم يجري عكس الآخر، فأحياء القلوب يركضون نحو الموت بذلاً وعملاً، وأموات القلوب يركضون بعيدا عنه عجزاً وكسلاً، إلا أن خطى الأيام تجرفهم نحو الموت قسراً على نحو مذل مهين، فلا الدنيا لهم بقيت، ولا الآخرة بهم سعدت

  • التصنيفات: أعمال القلوب -

وأعني بالبيت الجديد: القبر، وهذه التربية على ذكر الموت وما بعد الموت هي التربية التي نقل بها عمر بن عبد العزيز بني أمية نقلة نوعية تاريخية من الإغراق في الترف إلى الإغراق في العمل، والدواء الذي استطاع أن يعالج بها انحراف الأمة عن نهجها القويم سنين، ووالله ما كان يستطيع عمر أن يفعل ما فعل لولا إشاعة ذكر الموت في القلوب، وذلك عبر سلسلة من المواعظ القولية والمواقف العملية اليومية، ومن ذلك ما رُوِي عنه أنه لما دخل عليه عنبسة بن سعيد بن العاص قال :"يا أمير المؤمنين!! إن من كان قبلك من الخلفاء كانوا يعطون عطايا منعتناها ولي عيال وضيعة، أفتأذن لي أن أخرج إلى ضيعتي وما يصلح عيالي؟!" فقال عمر: "أحبكم إلينا من كفانا مؤونته"، فخرج من عنده، فلما صار عند الباب قال عمر: "أبا خالد!! أبا خالد!!" فرجع فقال: "أكثر من ذكر الموت فان كنت في ضيق من العيش وسَّعه عليك، وإن كنت في سعة من العيش ضيَّقه عليك". 

وإننا حين نذكر الموت نذكر شدته وسكرته وكربته، وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول: «سبحان الله .. إن للموت لسكرات»، وانظروا إلى أبي بكر لما ثقل عليه الموت جاءته عائشة رضي الله عنها فتمثلت بهذا البيت:

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى *** إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

فكشف عن وجهه وقال: ليس كذلك ولكن قولي {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19]، فلما علم الله استبعاد الكافرين ومرضى القلوب الغافلين للبعث والجزاء عبَّر عنه بلفظ الماضي، وسكرة الموت هي شدته المذهبة للعقل، حين يختل الإدراك ويعتري العقل غيبوبة، وهي مشتق من السَّكْر وهو الغلق لأن العقل يُغلق عندها، ومنه جاء وصف السكران، وما أصدق قول القائل:

قالوا صف الموت يا هذا وشدَّته *** فقلت وامتد مني عندها الصوت
يكفيكم منه أن الناس إن عجزوا *** عن وصف ضربهم قالوا هو الموت

الموت هو السفرة العظمى التي يسافرها الأمير مع الفقير لا يتمايزان. وقف عبد الملك بن مروان على قبر معاوية بن أبي سفيان وقفة اعتبار وتأمل، فقال: "الحمد لله عشرين سنة أميراً، وعشرين سنة خليفة، ثم صرتَ إلى هذا".

هل الدهر والأيام إلا كما ترى *** رزِيَّة مال أو فراق حبيب 

ولما مات عبد الملك بن مروان وجد من يعتبر بموته من بعده كما اعتبر هو من قبل بمصرع معاوية، فعن ابن سابط الجمحي أنه خرج من قنسرين وهو قافل قال: فأشار لي إنسان إلى قبر عبد الملك بن مروان، فوقفت أنظر فمر رجل من العباد فقال: "لم وقفت ها هنا؟!" فقلت: "أنظر إلى قبر هذا الرجل الذي قدم علينا مكة في سلطان وأمن، ثم عجِبت إلى ما رُدَّ إليه"، فقال: "ألا أخبرك خبره لعلك ترهب؟" قلت: "وما خبره؟!" قال: "هذا مَلِك الأرض بعث إليه ملك السماء والأرض، فخلع روحه، فجاء به أهله، فجعلوه ها هنا حتى يأتي الله به يوم القيامة مع مساكين أهل دمشق". 

كم قد توارث هذا القصر من ملك *** فمات والوارث الباقي على الأثر.

مضاعفات القوة
1- اسمع كلام الموتى:
من رأى قبراً فإنما رأى أعظم واعظ وأدوم مذكِّر، وإن كان القبر صامتاً لكنه ناطق، وإن كان جامداً لكنه يحرِّك الجماد، فكأنه إنسان يخاطبك ويبين لك عاقبتك ويقول لك: "يا هذا!! قد كنتُ حيا مثلك ومت وأنت كذلك ميِّت، وضيَّعت أمر ربي وندمت فلا تشبه أخاك في خيبته، ولا تضيِّع أمر ربك فتهلك". 

ووالله ما وقف عاقل على شفير قبر فرآه محفورا إلا هيأ نفسه أن لو كان صاحب هذا القبر، ولا حضر جنازة فرأى صاحبها يُدَلَّى في الحفرة إلا سأل نفسه: على من يُغلق؟! أيغلق على طائع أم عاصي؟! وعلى أي شيء يُغلق؟! أعلى نار موقدة أم على جنة وارفة؟!

إن التفكر والدعاء واجبان لازمان عليك تجاه نفسك وتجاه كل من مررت بهم من أموات؛ من عرفت منهم ومن لم تعرف، وإلا استحققت أن يُطلق عليك لقب الخائن كما في قاموس حاتم الأصم الذي قال: "من مرَّ بالمقابر فلم يتفكر لنفسه ولم يدعُ لهم ، فقد خان نفسه وخانهم".

كان من برنامج العلاج أن يمر صاحبنا المريض بهذه التجربة، فيمر على مقابر الأموات عساها تبعث في قلبه الحياة، ودخل المقبرة .. كانت رائحة الموت في كل ناحية، والبوم تنعق فوق شجرة جرداء ميتة، وكأن الشجر أصر على أن يشارك الأموات موتهم، والسكون يلف المكان كله، فَعَلَت الزائر رهبة لكنها رهبة مدروسة، واعتراه خوف لكنه جزء من برنامج العلاج، وشرط لازم لبلوغ أولى مراحل الشفاء، وتقدم أخيراً نحو المقبرة فإذا على البوابة لوحة رخام مكتوب عليها:

ألا قل لماشٍ على قبرنا *** جهول بأشياء حلت بنا
سيندم يوما لتفريطه *** كما قد ندمنا لتفريطنا
فويحك كفَّ خطام الهوى *** وقَدِّم جميلا تفُز بالمنى

فارتعد واضطرب وأحس أن كل ميت يخاطبه بهذه العبارة، وأنها قامت مقام تحية الزوار حين عجزت ألسنة الموتى عن النطق والكلام، فتحركت قدماه ببطء وكأنه يزحف، واجتاز البوابة ليجد القبر الأول أمامه، حاول أن يقرأ اسم صاحبه لكنه كان غير واضح، كانت الرياح قد محته من على لوحة الرخام كما محته الأيام من ذاكرة الأحباب والإخوان، لكنه استطاع أن يقرأ كلمات لم تمح، لم تستطع الأيام أن تمحوها على الرغم من طول عمر المقبرة، ربما لأن معانيها ثابتة لا تتغير، أو لأن الله أراد لنا أن ننتفع بها فحرَّم على أي من خلقه أن يمحوها، دقَّق النظر فوجد مكتوباً:

قف واعتبر فكأنْ قد حللت هذا المحلا *** هذا مكان يساوي فيه الأعز الأذلا
ما كان لي من صديق إلا جفاني وملا *** وما جفاني ولكن طال المدى فتسلى

فازداد حسرة على حسرته، وأحس بوحشة هذا القبر وغربة أهله وبؤس ساكنه، وزاد من هذه الحسرة مروره على القبر الثاني الذي لمح فيه نفس المرارة، كان قبر شاعر فضح أصحابه في وجوههم قبل موته وقد اجتمعوا حول سريره وهو يحتضر، وفضحهم بعد موته بأن أوصى أن يُكتب على قبره:

وعما قليل لن ترى لي باكياً *** سيضحك من يبكي ويُعرِض عن ذكري
ترى صاحبي يبكي قليلاً لفرقتي *** ويضحك معْ غيد الحسان على قبري
ويُنشئ إخواناً وينسى مودتي *** وتشغله الأحباب عني وعن ذكري

وثالث استبق الأحداث، وتنبأ بما سيجري في المستقبل، وتأكَّد أن الطي في مجاهل النسيان سيكون مصيره، فأوصى أن يُكتب على قبره:

ملَّ الأحبة زورتي فجُفيتُ *** وسكنتُ في دار البلى فنُسيت
الحي يكذب لا صديق لميِّت *** لو كان يصدق مات حين يموت

ومرَّ بقبر رابع وكان صاحبه هو أبو بكر محمد بن أبي مروان بن زهر، وكان طبيب عصره حيث كان طبيب أشبيلية الأوحد حيث النعيم والترف والغنى والمال الذي لا منتهى له ولا حد ولا عدد، لكن بماذا أوصى هذ الغارق في النعيم حتى منتهاه؟! اسمعوا ما أوصى بكتابته على قبره مَن طالما شفى وأبرأ وداوى وأراح:

ترحَّم بفضلك يا واقفاً *** وأبصِر مكانا دُفِعنا إليه
تراب الضريح على صفحتي *** كأنيَ لم أمشي يوماً عليه
أداوي الأنام حذار المنون *** فها أنا قد صرتُ رهناً لديه

وخامس أطال الأمل فأساء العمل، ويبدو أن الوقت كان قد تأخر عليه، فقد أفاق لكن في الوقت الضائع، وتاب لكن عند رؤية ملك الموت، فأراد أن ننتفع إن فاته هو الانتفاع، وأن نعمل إن هرب من بين يديه العمل، وأن نجتهد ما دامت فينا الروح لم تُنزع بعد، فانطلق يصرخ فينا:

يا أيها الناس كان لي أمل *** قصَّر بي عن بلوغه الأجل
فليتق الله ربه رجلٌ *** أمكنه في حياته العمل
ما أنا وحدي نُقلت حيث ترون *** كلٌّ إلى مثله سينتقل

وهنا، وبعد المقبرة الخامسة بدأ يلمح فاعلية هذا الدواء وأثره على القلب ودوره في إعادته إلى الصحة المنشودة والعافية الضائعة وتنسمه لنسيم الهداية بعد أن ظل مزكوماً من زمن، فازداد عزماً وحماسة على إكمال المشوار، والاستمرار في تلقي رسائل الأموات، فمرَّ بالقبر السادس، فوجد هذه القصة منقوشة عليه:

الموت أخرجني من بيت مملكتي *** والترب مُضَّطجعي من بعد تشريف 
لله عبد رأى قبري فأعبره *** وخاف من دهره ريب التصاريف 
هذا مصير بني الدنيا وإن نعموا *** فيها وغرَّهم طول التساويف 
أستغفر الله من جرمي ومن زللي *** وأسأل الله فوزا يوم توقيف 

فأحس أن من أوصى بكتابة هذه السطور كان ملكاً مطاعاً أو أميراً سيداً في قومه حتى زاره الموت وانتزعه من هذه السطوة وانتشله من بين كل هذه الأُبَّهة، وألقى به في هذه الحفرة المسماة عند أهل الدنيا قبراً، فأيقن أن الدنيا وإن بلغت به أعلى مراقيها فلابد أن ينزل به الموت إلى أدنى مهاويها، واستمرت الرحلة حتى وصلت إلى القبر السابع، وكان ما كُتِب عليه أشبه بالبكاء، حتى لكأن المداد الذي كُتِب به هو دموع صاحب هذا القبر، فماذا كتب؟!

ما حال من سكن الثرى ما حاله *** أمسى وقد صُرِمت هناك حباله
أمسى ولا روح الحياة يصيبه *** يوما ولا لطف الحبيب يناله
أضحى وحيدا موحشا متفرداً *** متشتتا بعد الجميع عياله
أمسى وقد بَلِيَتْ محاسن وجهه *** وتفرَّقت في قبره أوصاله 
واستبدلت منه المجالس غيره *** وتقسَّمت من بعده أمواله

وثامن تنبأ يما سيفعله أهله من بعد، سيذكرونه يوما أو يومين، فإن علا قدره فشهراً أو شهرين، ثم يكون ما كُتِب:

وأصبح مالُكَ المجموع نهباً *** وعُطِّل بعدك القصر المشيد
وصار بنوك أيتاما صغاراً *** وعانق عرسَك البعلُ الجديد 

ومرَّ بتاسع قبر وكان في بستان كثير النخل والرمان وأصناف الشجر، لكن هل كان الأمر كذلك تحت الأرض؟! اسمعوا ما كتب صاحب هذا القبر لتعرفوا:

كم ساكنٍ في حفرة *** يبلى جديد جماله
ترك الأحبةَ *** بعده يتلذَّذون بماله

وكان القبر العاشر آخر قبر وهو متمِّم الشفاء ومسك الختام، وكان صاحبه مدفوناً على قارعة الطريق واسمه أبو هريرة بن النقاش، وهو الذي أوصى بدفنه في هذا المكان بذكائه وفطنته ليترحم عليه كل من يمر على قبره، وأوصى أن يُكتب على القبر:

بقارعة الطريق جعلتُ قبري *** لأحظى بالترحُّم من صديق
فيا مولى الموالي أنت أولى *** برحمة من يموت على الطريق

2- ربط الموت بالعمل:
حقيق بالمسافر أن يأخذ أهبة الرحيل وحوائج السفر وما يصلح لمنزل الإقامة المقبل، ويبادر بالعمل خوف المفاجأة، ومن احتدت عين بصيرته زاد في الجد وأحسن اختيار الزاد. 

يا أخي، كل امرىء على ما قدَّم قادم وفيما شيَّد خالد فما الذي قدمت لنفسك؟! فلا بد لمن ذكر الموت حق ذكره أن يظهر ذلك على عمله جلياً، فما الذي ظهر على عملك؟! إن المنية تقطع الطريق على الأمنية فاقطع أنت عليها الطريق بالعزمة الفتية.

لقد أوصانا رسول الله أن نذكر الموت في صلاتنا، فنصلي صلاة مودِّع، وعلى العاقل أن ينسج على نفس المنوال ويفهم ما وراء رسالة الحبيب، فإذا تصدق ذكر الموت فأخلص وأكثر، ثم تواضع، وخشع، وإذا ظلم ذكر الموت فتاب على الفور، وأدى الحقوق إلى أهلها لا يسوِّف، أو ينتظر لأن الموت لن ينتظر، وإذا دعا ذَكَر الموت فدعا دعاء المخلصين من القلب وكأنه آخر دعاء له في حياته، واسمعوا تجربة الشيخ عائض القرني لتفهموا معنى ما أقول. يقول الشيخ: "ارتحلتُ مع نفر من الناس في طائرة من أبها إلى الرياض في أثناء أزمة الخليج، فلما أصبحنا في السماء أُخبِرنا أننا سوف نعود مرة ثانية إلى مطار أبها لخلل في الطائرة، وعدنا وأصلحوا ما استطاعوا إصلاحه، ثم ارتحلنا مرة أخرى، فلما اقتربنا من الرياض أبتْ العجلات أن تنزل، فأخذ يدور بنا على سماء الرياض ساعة كاملة، ويحاول أكثر من عشر محاولات يأتي المطار ويحاول الهبوط فلا يستطيع، فيرتحل مرة أخرى، وأصابنا الهلع، وأصاب الكثير الانهيار، وكثر بكاء النساء، ورأيتُ الدموع تسيل على الخدود، وأصبحنا بين السماء والأرض ننتظر الموت أقرب من لمح البصر، وتذكرتُ كلَّ شيء فما وجدت كالعمل الصالح، وارتحل القلب إلى الله عزَّ وجل وإلى الآخرة، فإذا تفاهة الدنيا، ورخص الدنيا، وزهادة الدنيا، وأخذنا نكرِّر: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملكُ وله الحمدُ وهو كلِّ شيءٍ قديرٌ» (صحيح الجامع[3274])، في هتاف صادق، وقام شيخٌ كبير مسنٌّ يهتف بالناس أن يلجؤوا إلى الله وأن يدعوه، وأن يستغفروه وأن ينيبوا له، وقد ذكر الله عن الناس أنهم: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت من الآية:65]
ودعونا الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وألححنا في الدعاء، وما هو إلا وقت، ونعود للمرة الحادية عشرة والثانية عشرة، فنهبط بسلام، فلما نزلنا كأنا خرجنا من القبور، وعادت النفوس إلى ما كانت، وجفت الدموع، وظهرت البسمات، فما أعظم لطف الله سبحانه وتعالى". 

كمْ نطلبُ الله في ضُرِّ يحِلُّ بِنا *** فإنْ تولَّتْ بلايانا نَسِيَناهُ
ندعوه في البحرِ أنْ يُنْجي سفينتَنا *** فإنْ رجعنا إلى الشاطي عصيناهُ
ونركبُ الجوَّ في أمنٍ وفي دَعَةٍ *** وما سقطْنا لأنَّ الحافظ اللهُ 

وإذا سارت حياة الإنسان على هذا النسق وغمرتها هذه الروح في كل جنباتها أحب الإنسان ولا بد لقاء الله، واشتاق إلى الموت كما فعل بشر بن منصور رحمه الله حيث قال له من شهد موته: "كأني أراك تُسرُّ من الموت!!" قال: فعجب من تعجبي، وقال: "أتعجَّل قدومي على خالقي، أرجو خيره كمقامي مع مخلوق أخافه!!".

إنه وعد الله لعباده الصالحين الذي كثيراً ما نمرُّ عليه في القرآن دون أن ننتبه له، لكن الأمر مختلف مع صحابي جليل طويل التدبر حاضر القلب مثل أبي الدرداء الذي غاص في كتاب الله فخرج منه بهذه الفائدة:
"ما من مؤمن إلا و الموت خير له فمن لم يصدقني فإن الله تعالى يقول: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ[آل عمران من الآية:198]"، ومثله حيان بن الأسود الذي رأى أن: "الموت جسر يوصل الحبيب إلى الحبيب". 

ولذلك لما قيل لمكحول: "أتحب الجنة؟" قال: "ومن لا يحب الجنة!!" قال: "فأحب الموت، فإنك لن ترى الجنة حتى تموت".

إِذا مَدَحوا الحَياةَ فَأَكثَروا *** ففي المَوتِ أَلفُ فضيلةٍ لا تُعرفُ
مِنها ضمانُ لـقائه بحبيبه *** وَفِراقُ كُلِّ مُعاشِرٍ لا يُنصِفُ

لذا يكون الاستعداد عند هؤلاء ليوم الرحيل وكأنه يوم عرس يتجهَّز فيه الإنسان بأجمل ثيابه وأزكى أعماله، ويظل ينتظر ذلك اليوم على شوق أحر من الجمر كما سبق وانتظره سعد بن أبي وقاص الذي روى عنه محمد بن شهاب الزهري أنه لما حضره الموت دعا بخلق جبة له من صوف فقال: "كفِّنوني فيها، فإني لقيتُ المشركين فيها يوم بدر، وإنما كنتُ أُخبِّأها لهذا اليوم". 

لله درَّك يا سعد وما أحلى كلامك! وكأنك تريد بذلك أن توقد فينا شعلة العزم ونار الغيرة المقدَّسة لننافسك في الخيرات، ونلحق بك وإن سبقتنا إلى الجنات، وتقتدي بك وإن فاتتنا رؤيتك الغالية، فأين المنافس؟!

وما أروعك يا سعد وما أوثقك بربك حتى وأنت على بعد خطوات من لقائه. قال ابنه مصعب: كان رأس أبي في حجري وهو يقضي فبكيت، فرفع رأسه إلي فقال: "أي بني!! ما يبكيك؟" قلت: "لمكانك وما أرى بك"، فقال: "لا تبكِ، فإن الله لا يعذبني أبداً، وإني من أهل الجنة". 

إنه النعيم الذي ليس مثله نعيم والراحة الأبدية التي لا توصف والهدف الذي سعى إليه العاقلون النابهون، وهذا الكنز للأسف لا يبصره إلا القليل من الناس وهم أحياء القلوب، وكان أبو عطية من هذا القليل، ولذا لما تحادث قوم عنده فتذاكروا النعم، فقالوا: "من أنعم الناس؟!" فقالوا: فلان وفلان، ثم سألوه: "ما تقول يا أبا عطية؟" فقال: "أنا أخبركم من هو أنعم منه؟! جسد في اللحد قد أمن من العذاب، ينتظر الثواب". 

وهذا الجسد لو أُذِن له أن يتكلم وهو يدفن لصاح منشدا في من يدفنه:

إذا أمسى فراشي من تراب *** وصرتُ مجاور الربِّ الكريم
فهنُّوني أحبائي وقولوا *** لك البشرى قدِمت على كريم

والعكس بالعكس ما نسي أحدٌ ذكر الموت إلا أساء العمل وفرَّط في مستقبله. قال سليمان بن عبد الملك لأبي حازم:  "يا أبا حازم!! ما لنا نكره الموت؟" فقال: "لأنكم عمَّرتم دنياكم وخرَّبتم أخراكم، فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب". قال: "كيف القدوم على الله عز وجل؟!" فقال: "يا أمير المؤمنين .. أما المحسن فكالغائب يأتي أهله فرحًا مسرورًا، وأما المسيء فكالعبد الآبق يأتي مولاه خائفًا محزونًا". 

تجهَّزتم؟!
كان زياد بن جرير يقول : "تجهَّزتم؟!" فسمعه رجل فقال: "ما يعني بقوله: تجهزتم؟" فقيل: "تجهزتم للقاء الله"، وأنا آخيت زيادًا في قوله ووريثه في نصحه لذا أسأل الجميع وخاصة نفسي: تجهَّزتم؟!

أخي المتردِّد بين نعيم الجنة ولهيب النار!! 
لا تحيِّر معك الوعاظ ولا تتعب معك المصلحين ولا تفعل كما فعل صاحب بلال بن سعد حين قال: "يُقال لأحدنا: تريد أن تموت؟" فيقول: "لا"، فيقال له: "لم؟" فيقول: "حتى أتوب وأعمل صالحًا"، فيقال له: "اعمل"، فيقول: "سوف أعمل"، فلا يحب أن يموت ولا يحب أن يعمل، فيؤخِّر عمل الله تعالى، ولا يُؤخِّر عمل الدنيا.

3- دوام الذكر:
لقد ذكر الله كلمة الموت ومشتقاتها في القرآن الكريم أكثر من مائة وسبعين مرة، وكأن المطلوب منك ليس مجرد ذكر الموت بل مزيد الذكر، ودوام الذكر، وأثر الذكر، فلا تكن كساكني القبور الذين يشربون ويضحكون ويأكلون؛ دون أن يؤثر فيهم موت جديد بمقدار ذرة، ولا يحرك فيهم شعرة، واعلم أن أحياء القلوب بكل أطيافهم يذكرون الموت؛ أما المحب فإنه يذكر الموت دائماً لأنه موعد لقاء حبيبه، والمحب لا ينسى قط موعد لقاء الحبيب، وأما المجتهدون في العمل الساهرون في بذل الجهد فيذكرون الموت دائما ليقبضوا أجرهم ويودِّعوا تعبهم، وأما الراجون لعفوه الطامعون في كرمه فيذكرون الموت لتنهمر عليهم سحائب رحماته وبشائر إنعامه، وأما الخائفون من تقلب القلوب فيذكرون الموت خوفا من تغير الحال وسوء الخاتمة والمآل.

وهي وصية الرسول لنا: «أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت» (بلوغ المرام [150])
أي قاطعها من هدم البناء ، فشبه اللذات الفانية والشهوات العاجلة ثم زوالها ببناء مرتفع ينهدم تحت وقع الصدمات المتتالية، ثم أمر المنهمك في بناء هذا الجدار بذكر وقوع الهدم حتى لا ينشغل بالبناء وينسى ما وراءه.

وهذا كلام مختصر وجيز وقد جمع التذكرة وأبلغ في الموعظة، فإن من ذكر الموت حقيقة ذكره نغَّص عليه لذته الحاضرة، ومنعه من محاولة نيلها في الحرام، وزهَّده في الدنيا الراحلة عن قريب، ولكن النفوس الراكدة والقلوب الغافلة تحتاج إلى تطويل الوعاظ وتزويق الألفاظ؛ وإلا ففيما ذكر من قوله عليه الصلاة والسلام الكفاية كل الكفاية.

وحين نقول الذكر نعني بذلك ذكر القلب ليس غير، لأن المريض إذا ذكر الموت بقلبه تبع ذلك كل ألوان الذكر الأخرى. قال الراغب: "والذكر وجود الشيء في القلب أو في اللسان: وذلك أن الشيء له أربع وجودات: وجوده في ذاته، ووجوده في قلب الإنسان، ووجوده في لفظه، ووجوده في كتابته، فوجوده في ذاته سبب لوجوده في القلب، ووجوده في القلب سبب لوجوده في اللسان ولوجوده في الكتابة".

إن دوام ذكر الموت يجعل للعبادة طعما آخر في القلب، ووزناً آخر في ميزان الأعمال؛ لأنها تخرج من قلب مُقبِل على الآخرة معرِض عن شواغل الدنيا، والله يطلع على قلب العبد قبل أن يطلع على عمله، فإذا رأى فيه هذا ضاعف ثواب عمله حتى يسبق العبد كثيراً من أصحاب الأعمال الكثيرة لكنهم عن ذكر الموت غافلون، لذا كان الأوزاعي يقول: "من أكثر ذكر الموت كفاه اليسير من العمل".

واتفق معه يحيى بن معاذ في الرأي إلا أنه أضاف عليه وزاد: "من أكثر ذكر الموت لم يمت قبل أجله، ويدخل عليه ثلاث خصال من الخير؛ أولها: المبادرة إلى التوبة، والثاني: القناعة برزق يسير، والثالث: النشاط في العبادة".

حدة السباق
سباقٌ رهيبٌ يجري بين أحياء القلوب وأمواتها، بين الذاكرين للموت والغافلين عنه، لكن كل منهم يجري عكس الآخر، فأحياء القلوب يركضون نحو الموت بذلاً وعملاً، وأموات القلوب يركضون بعيدا عنه عجزاً وكسلاً، إلا أن خطى الأيام تجرفهم نحو الموت قسراً على نحو مذل مهين، فلا الدنيا لهم بقيت، ولا الآخرة بهم سعدت.

وفي النهاية يلتقي الفريقان ويتقابل الضدان -هناك- تحت التراب وفي ظلمة القبر حيث الأفراح والأتراح، وقد أدرك ذلك جيدًا سفيان الثوري فكان يتمثل بأبيات الأعشى التي يروي فيها تفاصيل اللقاء ويصرخ بها صرخة النذير:

إذا أنت لم ترحل بزاد من التُّقى *** ولاقيتَ بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله *** وأنك لم ترصد بما كان أرصدا 

4- الدعوة:
إذا صاحب ذكر الموت تحذير الناس مما هم فيه من غفلة، وحثهم على العمل، السعي إلى النجاة مما وراء الموت، فقد تضاعف أثر العلاج وعظم تأثيره في القلب، وانظروا كيف كانت هذه الدعوة صادقة خاصة لمن كان على فراش الموت يحتضر، إنها الدعوة التي أطلقها يزيد الرقاشي عند احتضاره، فأبى إلا أن يصدقنا النصيحة، وهل أصدق من رجل عاين الموت، ورُفِع عنه الحجاب، ورأى أولى مراحل الحساب، وأدار ظهره للدنيا واستقبل الآخرة، واسمعوا:
لما احتضر يزيد الرقاشي بكى فقيل له: "ما يبكيك رحمك الله؟" فقال في أصدق لهجة بلا زيف أو تجمُّل: "أبكي والله على ما يفوتني من قيام الليل وصيام النهار"، ثم بكى وقال: "من يصلي لك يا يزيد؟! ومن يصوم؟! ومن يتقرب لك إلى الله بالأعمال بعدك؟! ومن يتوب لك إليه من الذنوب السالفة؟! ويحكم يا أخوتاه!! لا تغترن بشبابكم، فكأن قد حلَّ بكم ما حلَّ بي من عظيم الأمر وشدة كرب الموت، النجاة النجاة .. الحذر الحذر يا إخوتاه .. المبادرة رحمكم الله".

وتكررت النصيحة مع كل محتضر صالح من أمثال المغيرة بن حكيم، فعن عبد العزيز بن أبي رواد قال: دخلت على المغيرة بن حكيم في مرضه الذي مات فيه قلت: "أوصني"، فقال: "اعمل لهذا المضجع". 

ومن قبلهما أبو الدرداء رضي الله عنه، فعن محمد بن قيس قال: جاء رجل إلى أبي الدرداء وهو في الموت، فقال: "يا أبا الدرداء!! عِظني بشيء لعل الله ينفعني به وأذكرك" قال: "إنك في أمة مرحومة، أقم الصلاة المكتوبة، وآت الزكاة المفروضة، وصُمْ رمضان، واجتنب الكبائر أو قال المعاصي، وأبشر"، فكأن الرجل لم يرض بما قال حتى رجَّع الكلام عليه ثلاث مرات، فغضب السائل وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ[البقرة:159]، ثم خرج الرجل، فقال أبو الدرداء: "أجلسوني" فأجلسوه قال: "رُدُّوا علي الرجل"، فقال: "ويحك!! كيف بك لو قد حُفِر لك أربع أذرع من الأرض، ثم غرقت في ذلك الجرف الذي رأيت، ثم جاءك فيه ملكان أسودان أزرقان منكر ونكير يفتنانك ويسألانك عن رسول الله، فان ثبَتَّ فنعم ما أنت فيه، وإن كان غير ذلك فقد هلكت، ثم قمت على الأرض ليس لك إلا موضع قدميك ليس ثم ظل إلا العرش، فإن ظللت فنعم ما أنت فيه، وإن أضحيت فقد هلكت، ثم عرضت جهنم والذي نفسي بيده إنها لتملأ ما بين الخافقين، وإن الجسر لعليها، وإن الجنة لمن ورائها، فإن نجوت منه، فنِعْم ما أنت فيه، وإن وقعت فيها فقد هلكت، ثم حلف له بالله الذي لا إله إلا هو إن هذا لحق".

وعند النزع الأخير وبينما هو يجود بنفسه تحامل رضي الله عنه على نفسه حتى استطاع أن ينطق بكلماته الأخيرة قبل الوداع: "ألا رجلٌ يعمل لمثل مصرعي هذا؟! ألا رجلٌ يعمل لمثل يومي هذا؟! ألا رجلٌ يعمل لمثل ساعتي هذه؟!" ثم قُبِض.

لكن!! لماذا يدعو الإنسان عند موته فحسب؟! لماذا لا يستغل العافية التي يرفل فيها اليوم ليقرع جرس الإنذار في من حوله تحذيراً لهم من الموت وعواقبه؟! لماذا لا يستفرغ طاقته في نصح أهله ومن يحب حتى يُختم له حياته بمثل هذه الخاتمة السعيدة: وهو يدعو؟! 

أخي، ألا تعظ الناس حتى ينزل بك ملك الموت؟! ألا تحذِّرهم إلا مما ترى وتعاين؟! ألا تنطق إلا والنائحات عليك يندبن والثكالى ينظرن؟! إن الدعوة عند الاحتضار علامة حسن الخاتمة لكنها أصعب بكثير من الدعوة في العافية، "وإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه قد تمكن منه الشيطان واستعمله بما يريده من المعاصي، وقد أغفل قلبه عن ذكر الله تعالى، وعطَّل لسانه من ذكره، وجوارحه عن طاعته، فكيف الظن به عند سقوطه قواه واشتغال قلبه ونفسه بما هو فيه من ألم النزع؟! وجمع الشيطان له كل قوته وهمته، وحشد عليه بجميع ما يقدر عليه لينال منه فرصته، فان ذلك آخر العمل، فأقوى ما يكون عليه شيطانك ذلك الوقت، وأضعف ما تكون أنت في تلك الحالة، فمن تري يسلم من ذلك؟! فهناك {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم من الآية:27]".

5- قصر الأمل:
كلنا واقف في طابور الموت ينتظر، إلا أن طول الأمل عمَّ جموع الواقفين، وفارق كبير بين من باغتته مصيبة وهو متحسب لها، مترقب عواقبها، وبين من باغتته المصيبة وهو لاهٍ، فكيف إذا كانت تلك المصيبة هي أعظم المصائب وعواقبها أخطر العواقب، إنها مصيبة الموت، وعاقبتها النار لكل من غفل عنها واستهان بها ولم يتجهَّز لها.

من كان يعلم أن الموت مدركه *** والقبر مسكنه والبعث مخرجه
وأنه بين جنات ستبهجه *** يوم القيامة أو نار ستنضجه
فكل شيء سوى التقوى *** به سمج وما أقام عليه منه أسمجه
ترى الذي اتخذ الدنيا له وطنا *** لم يدر أن المنايا سوف تزعجه

إذا دفع ذكر الموت صاحبه إلى قصر الأمل وما يتبعه من استشعار قرب الرحيل، ودنو موعد الحساب، واقتراب مواجهة أسئلة الملكين في القبر، والتجهُّز ليوم العرض فقد حصل المطلوب وبلغنا المراد، لكن ما هو قصر الأمل؟ وكيف الوصول إليه؟!

يقول الإمام ابن القيم: "فأما قصر الأمل: فهو العلم بقرب الرحيل، وسرعة انقضاء مدة الحياة، وهو من أنفع الأمور للقلب؛ فإنه يبعثه على معافصة الأيام، وانتهاز الفرص التي تمر مَرَّ السحاب، ومبادرة طَيَّ صحائف الأعمال، ويثير ساكن عزماته إلى دار البقاء، ويحثه على قضاء جهاز سفره، وتدارك الفارط، ويُزهِّده في الدنيا، ويُرغِّبه في الآخرة؛ فيقوم بقلبه -إذا داوم مطالعة قصر الأمل- شاهدٌ من شواهد اليقين يريه فناء الدنيا، وسرعة انقضائها، وقلة ما بقي منها، وأنها قد ترحلت مُدْبِرَة ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابُّها صاحبها، وأنها لم يبق منها إلا كما بقي من يوم صارت شمسه على رؤوس الجبال، ويريه لقاء الآخرة ودوامها، وأنها قد رحلت مقبلة، وقد جاء أشراطُها وعلاماتها، وأنه من لقائها كمسافر خرج صاحبه يتلقاه، فكل منهما يسير إلى الآخر، فيوشك أن يلتقيا سريعًا. 

وقصر الأمل بناؤه على أمرين: تيقن زوال الدنيا ومفارقتها، وتيقن لقاء الآخرة وبقائها ودوامها، ثم يقايس بين الأمرين، ويؤثر أولاهما بالإيثار". 

سبق وأن قام بهذه المقايسة سفيان الثوري ثم صاغها في بيت من الشعر كان كثيرا ما يتمثل به: 

باعوا جديدًا جميلاً باقيًا أبدًا *** بدارسٍ خَلَقٍ يا بئس ما اتَّجروا 

يا طويل الأمل، يا كثير الزلل، يا عظيم الكسل، يا عديم الوجل، الإفاقة الإفاقة قبل نزول الفاقة، فما أطلق عبد العنان لأمله إلا عثر في الطريق بأجله، وإن غاب عن ذهنك الموت فيسأتي ما يذكِّرك به لا محالة، كان أبو بكر الصديق إذا أخذته الحمى يقول:

كل امرئ مصبَّحٌ في أهله *** والموت أدنى من شراك نعله

انتبه! انتبه!! فإن اللص حين يريد سرقة مالك يشغلك بأمر آخر؛ حتى يسرق ما في جيبك، وكذلك الشيطان حين يريد إهلاكك، يحاول إغراقك في زحمة الأحداث الدنيوية والأعباء المعيشية ليسرق منك عمرك، وهل يملك العبد منا زاداً عند الله يوم القيامة سوى ما قدّم من عمل أثناء عمره؛ فإن سرقه الشيطان منك فبماذا تقدم على ربك؟! 

سهوتُ وغرَّني أملي *** وقد قصَّرت في عملي
ومنزلة خُلِقتُ لها *** جعلتُ لغيرها شغلي
يظل الدهر يطلبني *** ويمضي بي على عجل
فأيامي تقرِّبني *** وتُدنيني من الأجل

طول الأمل في الشباب منقصة لكنه في الشيب عار، طول الأمل في الشباب له ما يبرره أما عند الشيوخ وعلى مشارف القبر فلا عذر لصاحبه، فيا هذا! 

 يا من يجمع العيب إلى الشيب *** لا الماء بارد ولا الكوز نظيف

 يا من شاب في الإسلام! إذا قرع الشيب بابك فقد استأذن عليك ملك الموت وزارك، لأن الشيب مؤذن الرحيل، ألا فانتبه!!

ألا فامهد لنفسك قبل موت *** فإن الشيب تمهيد الحمام
وقد جدَّ الرحيل فكن مُجِدَّا *** بِحَطِّ الرَّحل في دار المقام

يا من استأنس بظل زائل عن قريب: 
الدنيا قنطرة نحو الآخرة، ومنا من قطع نصف القنطرة، ومنا من قطع ثلاثة أرباعها، ومنا من لم يبق له على القنطرة إلا خطوة واحدة وهو لا يدري؛ يزيِّن القنطرة ويجدِّدها وهو لا يدرك أنه واقف على حافتها يوشك أن يسقط منها إلى القبر، ونادرا ما يدرك طويل الأمل سراب أمله إلا عند هجوم أجله، وهنا يستحيل حلو العيش مراً، ويعلم المخدوع أن الباقيات الصالحات أنفع ذُخراً، فليس في الدنيا مقيل ولا عليها تعويل، فبالله كيف يطمع عاقل في الإقامة في دار رحيل؟! 

كيف نتنافس فيه؟!
اعلم أن المرضى يتفاوتون في قصر الأمل وطوله، فأطولهم أملا المشركون الذين قال الله فيهم: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ[البقرة من الآية:96]، وأقصر منهم أملاً من يأمل البقاء إلى آخر المشيب وهو أقصى عمر شاهده في حياته ورأى أهله، ومنهم من يأمل البقاء إلى سنة مقبلة، ومنهم من قصر أمله إلى إلى أن يصل إلى يوم واحد أو بعض يوم كما في وصية عبد الله بن عمر: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء"، وهي عصارة فهمه لحديث النبي حين أخذ بمنكبيه وقال له: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» (صحيح بن ابن حبان[698]).

لكن لماذا الغريب وعابر السبيل على وجه التحديد وليس غيرهما؟!
والجواب: الغريب يسكن دار الغربة لكن قلبه دائما متعلق بوطنه مشتاق إليه، فلا يعلِّق قلبه بشيء من هذا البلد الغريب عنه، لأن إقامته فيه مؤقتة حتى يفرغ من حاجته فيعود إلى مستقره على الفور، وكذلك المؤمن غريب عن هذه الدنيا مشتاق إلى الجنة، والغريب دائمًا قليل الانبساط إلى الناس مستوحش، لا يكاد يمرُّ بمن يعرف فيأنس به.

أما عابر السبيل فهو أصعب من الغريب حالاً وأقصر منه أملاً، وهو المسافر الذي يمر كل ليلة على مكان يبيت فيه فقط لكونه على طريقه، فهو ليلة في بيت صاحب له، وليلة في بيت من بيوت الله، وليلة لا يجد مكاناً ينام فيه إلا جانب الطريق يفترش فيه الأرض ويلتحف السماء، وهو لهذا خفيف الأحمال لأن سفره شاق طويل لا يقطعه إلا المُخِفّون.

قال الحافظ ابن حجر: "عابر السبيل هو المار على الطريق طالباً وطنه، فالمرء في الدنيا كعبد أرسله سيده في حاجة إلى غير بلده، فشأنه أن يبادر بفعل ما أُرسِل فيه، ثم يعود إلى وطنه ولا يتعلق بشيء غير ما هو فيه".

ورسول الله حين أوصى عبد الله بن عمر أوصى معه كل من يحب من أمته بأن لا يرضى لقلبه في الدنيا إلا إحدى هاتين الحالتين: إما الغربة وإما حال عابر السبيل، وهز النبي عبد الله بن عمر هزًا حين أمسك بمنكبيه وكأنه يلقِّنه ويحفِّظه هذه الوصية لأهميتها وخطورتها وأثرها في حياة القلب إن روعيت، وموته إن أُهمِلت، لكن ما معنى "أو" في هذه الوصية؟!

قال الطيبي : "ليست "أو" للشك بل للتخيير والإباحة، والأحسن أن تكون بمعنى بل، فشبَّه الناسك السالك بالغريب الذي ليس له مسكن يأويه، ولا مسكن يسكنه، ثم ترقَّى وأضرب عنه إلى عابر السبيل؛ لأن الغريب قد يسكن في بلد الغربة بخلاف عابر السبيل القاصد لبلد شاسع، وبينهما أودية مردية ومفاوز مهلكة وقطاع طريق، فإن من شأنه أن لا يقيم لحظة ولا يسكن لمحة".

والتشابه بين حال الإنسان في الدنيا وحال الغريب أو عابر السبيل واضح بيِّن وهو أن كلاهما على سفر، فإن "الناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حطٌّ عن رحالهم إلا في الجنة أو النار، والعاقل يعلم أن السفر مبني على المشقة وركوب الأخطار، ومن المحال عادة أن يُطلب فيه نعيم ولذة وراحة، إنما ذلك بعد انتهاء السفر، ومن المعلوم أن كل وطأة قدم أو كل آن من آنات السفر غير واقفة، ولا المكلف واقف، وقد ثبت أنه مسافر على الحال التي يجب أن يكون المسافر عليها من تهيئة الزاد الموصل، وإذا نزل أو نام أو استراح فعلى قدم الاستعداد للسير".

فهذه مراتب الناس في الأمل وهي كما ترى تتفاوت تفاوتا شاسعاً، ولكل منهم درجة عند الله، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وصدق أبو حامد الغزالي وهو يقرِّر ذلك في قوله:
"وليس من أمله مقصور على شهر كمن أمله شهر ويوم؛ بل بينهما تفاوت في الدرجة عند الله، فإن الله لا يظلم مثقال ذرة، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة:7]".

وقد وعى عبد الله بن عمرالدرس جيداً، لذا أوصانا بعد روايته لهذا الحديث أن نختار مرتبة من أعلى مراتب قصر الأمل وأشرفها؛ بحيث لا نغفل عن الموت ليلاً أو نهاراً، فإن حدث وعشنا إلى المساء شكرنا الله على توفيقه لنا في طاعته نهاراً، وإن حدث وعشنا إلى الصباح شكرناه على مثل ذلك من الليل، وذلك كل يوم. 

إذا أمسيتَ فابتدر الفلاحا *** ولا تُهمِله تنتظر الصباحا
وتُب مما جنيتَ فكم أناسٍ *** قضوا نحبا وقد باتوا صِحاحا

المصدر: مقتبس من كتاب جرعات الدواء