تربويات من مدرسة الحج

فيما تغمر العالم الإسلامي فرحة أيام الحج ومناسكه التي شرعها الله سبحانه وتعالى تطهيرًا ورحمة لعباده، تنطق الأقلام، وتسطر الحناجر، وقفات إيمانية وروحية وعلمية وتربوية وجهادية، تنهل من مدرسة الحج نماذج وأفكار وعبر كثيرة....

  • التصنيفات: ملفات الحج وعيد الأضحي -

فيما تغمر العالم الإسلامي فرحة أيام الحج ومناسكه التي شرعها الله سبحانه وتعالى تطهيرًا ورحمة لعباده، تنطق الأقلام، وتسطر الحناجر، وقفات إيمانية وروحية وعلمية وتربوية وجهادية، تنهل من مدرسة الحج نماذج وأفكار وعبر كثيرة.
فلا يوجد في الدين الإسلامي ركن أو نهج أو عمل، إلا وكانت حكمة عظيمة وراءه، دبرها العزيز المنان، وكشف بعضًا منها لأولي العلم من الناس، يتدبروا فيها عظمة الخالق وجبروت مالك الملك، ورحمة الرحمن الرحيم.

دروس لا تنتهي:
ومن هذه الوقفات التربوية التي كتبت الكثير من الأقلام عنها دون أن تستطيع الإحاطة بأقل قليلها، أو تحديد معانيها ومرامها، ما يحدد الأستاذ فهد الجهني بالقول: لعلنا نقف مع بعض الدروس والعبر التي نتعلمها في مدرسة الحج، وإن شئت فقل جامعة الحج ولسنا نقصد الحصر ولا العد إنما هي إشارات وإضاءات تبين روح الإسلام وعظمته.

1. الوحدة والاجتماع واتحاد الصف:
ما أعظم هذه المعاني وضرورتها ودورها في نهضة الأمة وهي واضحة جلية في شعيرة الحج، فالمسلمون يقدمون من كل مكان على الأرض مختلفون في بلدانهم وألوانهم ولغاتهم وأسمائهم، لكنهم اجتمعوا واتحدوا وتوافقوا زمانًا ومكانًا ظاهرًا وباطنًا في الحج، وهم مع ذلك اتحدوا باطنًا بحيث لو سألت أي حاج لِمَ قدمت إلى الحج؟ لَما تردد وأجابك بأنه قدم طاعة لله عز وجل وطمعًا في عفوه ورحمته، والله تعالى يقول: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة:من الآية199]. لتكون أفعال الحج واحدة ومظاهر الوحدة والاجتماع بين الحجاج في المناسك ظاهرة لا حاجة لتفصيلها، إذن لو لم يكن في الحج إلا هذه الفائدة هذا الدرس نتعلمه ونرجع به إلى أوطاننا لكفى والله  ولكان له الأثر الواضح والنقلة النوعية نحو سمو الأمة الإسلامية وعزها.

2.  تنظيم الوقت والالتزام بالموعد: وهذا درس آخر من دروس الحج، فارتباط مناسك الحج بالوقت ارتباط وثيق يدل على أهمية الوقت والحرص على الزمان، ويظهر ذلك من خلال تأمل تحديد الشارع زمان كل منسك من مناسك الحج كالوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة، والنفرة منها إلى منى، ورمي جمرة العقبة، وتحديد زمان بداية رمي الجمار أيام التشريق بعد الزوال، وكذا كون الحج في وقت محدد من العام لا يقبل قبل ذلك ولا بعده إلى غير ذلك مما يرشدنا وينبهنا للاهتمام بالوقت، فالوقت هو الحياة وهو رأس المال الذي يلزم المسلم الحفاظ عليه من أن يقضى فيما لا نفع ولا ثمرة فيه ولا مصلحة دينية أو دنيوية فضلًا عن أن يبذل هذا الوقت فيما حرمه الله عز وجل.

3. تيسيرًا لا تعسيرًا:
اليسر والسهولة ورفع المشقة سمة من سمات دين الإسلام، وتظهر صور ذلك بينة في الحج، ففي الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عندما وقف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه. قال: فما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قدّم ولا أخّر إلا قال: افعل ولا حرج، وكذلك الرخصة لذوي الأعذار كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم للعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته، والإذن للضعفة من النساء والصبيان بالإفاضة من مزدلفة ليلًا ورمي جمرة العقبة قبل وقتها، وغير ذلك من شواهد التيسير والبعد عن التعسير على الحجاج، بل إن التخيير عند الأمر فيه من التيسير والتسهيل الشيء الكبير، فأنت مخير في حجك بين التمتع والقران والإفراد، ومخير بين الحلق والتقصير، ثم أنت مخير في التعجل أو التأخر نهاية الحج، ولا شك أن هذا درس عظيم لكل داعية ومربٍ ومعلم وكل مسلم في اتباع التيسير والتخفيف لا التعسير والعنت والمشقة على الآخرين عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا» (صحيح البخاري).

 

4. ذاتية التربية والمراقبة ولزوم التقوى:
إن من أوضح ما يراه من يتأمل في الحج ذلك التنظيم الدقيق وإلزام الحاج بالانضباط والجدية، فمن بداية رحلة الحج المباركة إلى نهايتها نجد حدودًا واضحة مكانية وزمانية، فالحدود المكانية هي مواقيت الحج المحددة التي لا يجوز تجاوزها لمن أراد الحج من غير أهل مكة، وكذلك أماكن الطواف والسعي وغيرها، أما الحدود الزمانية مما حدد من المناسك بوقت معين كالوقوف بعرفة والخروج منها والمبيت بمزدلفة ورمي الجمار وغير ذلك، ومن التنظيم الملاحظ في الحج إلزام الجميع لباسًا واحدًا له صفة معينة، وكذا بيان المحظورات التي تخل بالإحرام.

كل هذه حدود من الشارع عز وجل {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:من الآية229]، وقال تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:من الآية1]، وبوب البخاري في كتاب الحج "باب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسكينة عند الإفاضة وإشارته إليهم بالسوط وفيه أنه لما دفع النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة سمع من ورائه زجرًا شديدًا وضربًا وصوتًا للإبل فأشار بسوطه إليهم، وقال: «أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع» [1] فانظر أخي الكريم إلى هذه المعاني العظيمة التي يُربى عليها المسلم في الحج من حب النظام والانضباط وتقوية روح الجدية فيرجع المسلمون إلى أهليهم بهذه المعاني التربوية القيمة.

 

5. التنظيم والانضباط والجدية:
هذه المعاني نجدها متمثلة في مشاعر الحج، بل إن الله تعالى أمر بالتقوى في سياق آيات الحج، فقال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:من الآية197]. مما يحمل المسلم الحاج على مراقبة الله العظيم مراقبة ذاتية داخلية من قبل النفس فكل عمل يعمله يعلمه الله وقد نهاه الله عز وجل عن الرفث والفسوق والجدال تربية وتهذيبًا لسلوكه {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [البقرة:من الآية197]. فمن بداية الحج إلى تمامه والمسلم يراقب الله تعالى ويلزم التقوى فيكون قصده لله وحجه وحبه ورجاؤه وخوفه وذله ودعاؤه وتضرعه كله لله تعالى فإذا لبس إحرامه جعل من ذاته رقيبًا ينبهه ويذكره علم الله واطلاعه فلا يقترب من محظورات الإحرام، وإن وقع منه خطأ فإنه يكفر عن هذا المحظور بما ورد والله أعلم به، وإن كان في الطواف ووقع شيء من الزحام مع هذه الألوف من الرجال والنساء فيراقب بصره عن رؤية ما لا يحل له وينأَ بنفسه عن الحرام ويحفظ قلبه وسمعه وبصره ولسانه في الحج حفاظًا على نسكه وطمعًا في قبول عبادته، وهكذا في كل مناسك الحج، وفي ذلك كما لا يخفى تربية للنفس وارتقاء بها وتزكية وتطهير لها، وإنه –والله– لدرس ما أجَلّه وأعظمه لو تأمله واستفاد منه الحاج وعممه وطبقه على باقي حياته.

 

6. التآلف والتعارف بين المسلمين والعطف المتبادل:
ما أجمل الحج عندما تتعرف على أحد إخوانك المسلمين من بقاع الأرض الأخرى فتعرف أحواله وتحبه ويحبك، ثم أنت وإياه تساعدان وتعينان إخوانكم ويعطف بعضنا على بعض لا رابط يجمعنا لا نسب ولا وطن ولا تراب ولا مال ولا شيء إلا الإسلام، نعم هنا في أيام الحج تظهر أجمل وأردع معاني الأخوّة، ونكون كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا» (صحيح البخاري).

وانظر معي –أخي الحبيب– إلى هذا الحديث في صحيح مسلم فعن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركبًا بالروحاء، فقال: «من القوم»؟ قالوا: المسلمون، فقالوا:من أنت؟ قال: «رسول الله» فرفعت إليه امرأة صبيًا، فقالت:ألهذا حج؟ قال: «نعم ولك أجر» فالحج تربية للتآلف والتعارف والتواد والتقارب بين المسلمين لا فضل بيننا إلا بالتقوى، والله تعالى يقول في سورة الحج: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج:28]، وقال سبحانه: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:من الآية36]، نعم يعلّم الله عباده ويربي حجاج بيته أن يتساعدوا ويتعاونوا ويعطف بعضهم على بعض ويطعم الغني الفقير ويساعد القوي الضعيف لترسخ بعد ذلك معاني مهمة في التكاتف والتعاون.

 

7. تكريم المرأة وصيانتها:
المرأة، وما أدراك ما المرأة؟ اتخذها مَن في قلبه مرض طريقًا لمقاصدهم الضالة وسلمًا لأمنياتهم المشبوهة في إفساد المجتمع وتغريب الأمة فزعموا –جاهلين أو متجاهلين– ظلم المرأة وإهانتها وبخسها حقوقها وحريتها في المجتمع المسلم، وإنا نقول بأعلى الأصوات: لا يوجد دين أو ملة أو قانون أعطى المرأة حقوقها وكرمها ورفعها وصانها إلا الإسلام ولا فخر، حتى تمنى بعض نساء الغرب أن يعشن حياة المرأة المسلمة في مكانتها وعفتها وسعادتها بتربية أبنائها وعزها بحجابها لما قاست المرأة الغربية الكافرة من ظلم وإهانة واحتقار، وفي الحج صور متعددة من تكريم المرأة ورعايتها وصيانتها، فعندما قام ذلك الرجل، وقال: يا رسول الله اكتتبت في غزوة كذا وكذا وخرجت امرأتي حاجة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اذهب فحج مع امرأتك» (صحيح البخاري).

ولما لم يلزم الإسلام المرأة بالجهاد حفاظًا عليها وتقديرًا لضعفها أبدلها الله مكانه الحج والعمرة، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قلت: يا رسول الله، على النساء جهاد؟ قال: «نعم عليهم جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة» (رواه أحمد وابن ماجة)، وتأمل معي –أخي الكريم– ما ورد في الحديث المتفق عليه أن عائشة رضي الله عنها قالت: "دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: م «ا يبكيك يا هنتاه؟» قلت: سمعت قولك لأصحابك فمنعت العمرة. قال: «وما شأنك؟» قلت: لا أصلي. قال: «فلا يضيرك! إنما أنت امرأة من بنات آدم كتب الله عليك ما كتب عليهن فكوني في حجتك فعسى الله أن يرزقكيها».

أليس في هذا تكريم للمرأة وسؤال عن حالها وتطييب لخاطرها واهتمام بشؤونها ويا ليت قومي يعلمون هذا! ليتهم يدركون ما في الالتزام بمنهج الإسلام في التعامل مع المرأة ورعايتها في كنفه من حفاظ على أخلاقيات المجتمع وصيانة للأمة من كل أنواع الفساد الاجتماعي والتربوي والأخلاقي، الذي يعيشه العالم المادي اليوم ونراه عيانًا هنا وهناك.

 

8. التسامح والعفو وسلامة الصدر:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه» (رواه البخاري ومسلم) ، وما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وفي هذا بيان عظم عفو الله ورحمته وكمال جوده وكرمه مع قاصدي حرمه وحجاج بيته وفي هذه الأيام المباركات تنزل الرحمات وتعظم البركات ويعفى عن السيئات من لدن الغفور الرحيم العفو الكريم البر الحليم، فهل نستفيد من الحج بأن نرجع متسامحين عافين عن الناس صدورنا سليمة قلوبنا طاهرة من كل غل على المسلمين، فأسامح جميع إخواني وأعفو عمن أساء إليّ، وأحمل خطأ الآخرين المحمل الحسن، وأطهر قلبي من أي حقد أو حسد أو ضغينة أو كراهية كل ذلك رجاءً وطمعًا في أن يغفر الله لي ويعفو عني وهو أرحم الراحمين و"إنما يرحم الله من عباده الرحماء."

التوحيد واتباع سنة المصطفى والوحدة:
كما يشير الأستاذ شائع بن محمد الغبيشي (من مركز الإشراف التربوي بحلي)، إلى وقفات تربوية أخرى، ومنها:
أولًا:توحيد الله عز وجل:
تتجلى العناية بالتوحيد و بيان أهميته أن الحكمة من بناء البيت إنما هي توحيد الله جلّ وعلا وجُعل قصدُ الناس إليه من أرجاءِ المعمورة لإذكاءِ شعيرةِ توحيد العبادةِ وخلوصها لله سبحانه لا شريكَ له، {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26].
والمتأمل للأعمال و الأذكار التي يقوم بها الحاج خلال رحلة الحج يجد أنه يلهج بتوحيد الله عز وجل من أول منسكه إلى نهايته لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك، كما في حديث جابر رضي الله عنه في وصف حجة النبي صلى الله عليه و سلم قال: «فأهل بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك» (رواه مسلم).

ثانيًا:الاقتداء و التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم:
مدرسة الحج تربي الفرد والمجتمع المسلم على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فالحاج يربي نفسه على متابعة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في جميع شؤون الحياة فإن متابعة الحاج لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في مناسك الحج استجابة لقوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم» (مُتفق عليه). تربية للحاج أن يلتزم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في جميع ما يأتي و ما يذر، وذلك هو بداية الانطلاقة للتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَ‌سُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْ‌جُو اللَّـهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ‌} [الأحزاب:من الآية 21]. فمدرسة الحج تربي المسلم على أن الخير له والفلاح في العودة إلى هدي النبوة هدي محمد صلى الله عليه وسلم .
وأمة الإسلام اليوم في أمس الحاجة إلى أن تعود إلى إرث محمد صلى الله عليه وسلم لتستعيد عزها ومجدها المفقود

ثالثًا:الأخوة الإسلامية:
مدرسة الحج تربي على الأخوة الإسلامية، فالحاج يستشعر معنى الأخوة الإسلامية من خلال لقائه بإخوانه المسلمين من شتى بقاع الأرض ومن كل قطر ومصر يراهم  قد تصافحت أيديهم وتآلفت قلوبهم يظهر بعضهم لبعض المحبة والعطف والتعاون والتسامح.. شعارهم: وشيجة الدين هي أقوى الوشائج والصلات.

رابعًا:الوحدة الإسلامية:
مدرسة الحج تربي الفرد والمجتمع والأمة والعالم الإسلامي على مبدأ من أعظم مبادئ هذا الدين ألا و هو مبدأ الوحدة الإسلامية فالحاج يدرك أن الحج شعار الوحدة.. "فإن الحج جعل الناس سواسية في لباسهم وأعمالهم وشعائرهم وقبلتهم وأماكنهم، فلا فضل لأحد على أحد: الملك والمملوك، الغني والفقير، الوجيه والحقير، الكل في ميزان واحد... إلخ.

فالناس سواسية في الحقوق والواجبات، وهم سواسية في هذا البيت لا فضل للساكن فيه على الباد والمسافر، فهم كلهم متساوون في البيت الحرام، لا فرق بين الألوان والجنسيات، وليس لأحد أن يفرق بينهم.
وحدة في المشاعر ووحدة في الشعائر، وحدة في الهدف، وحدة في العمل، وحدة في القول "الناس من آدم، وآدم من تراب لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى"
أكثر من مليوني مسلم يقفون كلهم في موقف واحد، وبلباس واحد، لهدف واحد، وتحت شعار واحد، يدعون ربًا واحدًا، ويتبعون نبيًا واحدًا.. وأي وحدة أعظم من هذه" من مقال للدكتور يحيي اليحيي بعنوان (مقاصد الحج)  .

خامسًا:الجسد الواحد:
تُربينا مدرسة الحج على أن نتألم لآلام المسلمين في كل صقع من أصقاع الأرض مهما شطت بنا الديار واختلقت الأوطان فنحن جسد واحد.. عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»  (رواه البخاري ومسلم) .
تأتي مدرسة الحج لتزيل العزلة الشعورية التي يعيشها المسلمون حيال قضاياهم ومشاكلهم وآمالهم وآلامهم وتبدد الحصار والتعتيم الإعلامي المفروض على المسلمين .

سادسًا: ذكر الله:
مدرسة الحج تربي الحاج على ذكر، فالذكر هو أول المقاصد التي أرادها الله من عبادة الحج، قال تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِ‌جَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ‌ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ.لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُ‌وا اسْمَ اللَّـهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج:27-28]. ورحلة الحج من بدايتها إلى نهايتا ذكر لله عز وجل فالحاج يذكر الله بالتلبية، وخلال الطواف، وخلال السعي، ويصعد الحاج إلى عرفات ليدعو الله ويذكره، فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا اله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»  (رواه الترمذي). ويغادر الحاج عرفات إلى مزدلفة، إلى المشعر الحرام ليذكر الله قال تعالى: {فَاذْكُرُ‌وا اللَّـهَ عِندَ الْمَشْعَرِ‌ الْحَرَ‌امِ ۖ وَاذْكُرُ‌وهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ.ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُ‌وا اللَّـهَ ۚ إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ‌ رَّ‌حِيمٌ} [البقرة:198،199].

سابعًا:مخالفة المشركين و البراءة منهم:
قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة:من الآية 3]. فالحج فرصة لتأصيل عقيدة الولاء و البراء في نفوس المؤمنين خاصة أنها قد ضعفت وهزلت في نفوس كثير من الناس فتأتي مدرسة الحج لتحيي قضية البراء من المشركين، فقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على مخالفة المشركين خلال رحلة حجه، فقال للناس عن المشركين: «هدينا مخالف هديهم» (رواه البيهقي والحاكم، وقال:على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي).

قال د .عبد العزيز آل عبد اللطيف:لقد لبى النبي صلى الله عليه وسلم بالتوحي، خلافًا للمشركين في تلبيتهم الشركية، وأفاض من عرفات مخـالـفـًا لقريش، حيث كانوا يفيضون من طرف الحرم، كما أفاض من عرفات بعد غروب الشمس مخالفًا أهل الشرك الذين يدفعون قبل غروبها.
ولما كان أهل الشرك يدفـعـــــون من المشعر الحرام (مزدلفة) بعد طلوع الشمس، فخالفهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأبطل النبي صلى الله عليه وسلم عـوائــد الجاهلية ورسومها كما في خطبته في حجة الوداع، حيث قال:  «كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع» (صححه الألباني).

ثامنًا:تربية النفس و ترويضها على الصبر و تحمل المشاق:
من أظهر الدروس التي تتضح بجلاء في مدرسة الحج التربية على الصبر وتحمل المشاق في سبيل مرضاة الله قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] .
والصبر من خير ما يوفق له المؤمن، فعن أبي سعيد الخدري قال: قال صلى الله عليه وسلم: «ما أُعطي أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصَّبر» ( رواه الخمسة)، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "وجدنا خير عيشنا بالصبر"، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "الصبر مطية لا تكبو والقناعة سيف لا ينبو" وقال ابن قيم الجوزية رحمه الله: "إن الله سبحانه جعل الصبر جوادًا لا يكبو وصارمًا لا ينبو وجندًا لا يهزم وحصن حصينًا لا يهدم ولا يثلم".

تاسعًا: الثقة بنصر الله للإسلام والمسلمين:
فمدرسة الحج تزرع في النفس الثقة بنصرة الدين والتمكين له وأنه مهما طال ليل الكفر والباطل فإن فلق الصبح أوشك على الانبلاج، وما تجمع العدد الغفير من المسلمين في أيام الحج من كل فج عميق إلا بشارة بفجر جديد قريب لعز الإسلام والمسلمين، فعندما يرى الحاج وفد الحجيج حتى من البلاد التي تشن الحرب على الإسلام والمسلمين، وعندما يجالس وفود الحجيج فينقلون له تهافت الناس على الإسلام وتشوقهم إلى التعرف عليه، ويسردون أخبار التائبين  التائبات حتى في صفوف الفنانين والفنانات تزداد ثقته ويقوى يقينه بنصر الله للإسلام والمسلمين، وأن المستقبل لهذا الدين، قال عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [سورة التوبة:33]. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الْأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَلَا يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ إِلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإسْلامَ وَذُلًّا يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ» ( رواه أحمد)، وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «بَشِّرْ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالسَّنَاءِ وَالنَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ فَمَنْ عَمِلَ مِنْهُمْ عَمَلَ الْآخِرَةِ لِلدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ»  (رواه أحمد وابنه عبد الله في زوائده والحاكم، وقال:صحيح، ووافقه الذهبي وصححه الألباني).

عاشرًا: التربية على الأخلاق الفاضلة:
الحج مدرسة للتربية على الأخلاق الفاضلة من الحلم والعفو والصفح والتسامح  الإيثار والرحمة والتعاون والإحسان و البذل والكرم والجود....
فهي رحلة تسفر عن أخلاق الرجال وتسهم إسهامًا عظيمًا في تعديل السلوك السيئ إلى الحسن، فكم من حاج عاد من رحلة حجه بوجه غير الذي ذهب به قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 197].

عشرون وقفة تربوية:
كما يؤكد الأستاذ عقيل بن سالم الشمري على مبادئ الوقفات التربوية الكثيرة والمتعددة في الحج، وإلى عدم التمكن من الإحاطة بها أو إحصائها، ذاكرًا 50 وقفة تربوية من مدرسة الحج، منها:
1ـ تربية على التوحيد قولًا وعملًا.
2ـ تربية على كثرة حمد الله، ويظهر هذا من خلال لفظ الحمد في التلبية، ويتكرر بتكرارها، فيأتي العبد المصاب بمصيبة والفقير والمريض والغريب والمبتلى، وكلهم يحمدون الله وكأنهم أغنياء وأصحاء وأقوياء.
3ـ تربية على أن يكون اللسان رطبًا من ذكر الله.
4ـ تربية على تذكر الموت، وذلك بلبس الكفن، فيتذكر المؤمن تلك النهاية، ويشعر بها فتؤثر على قلبه وأعماله.
5ـ تربية للناس على الزهد في الدنيا وملذاتها، فمهما كان الشخص غنيًا أو أميرًا أو وزيرًا إلا أنه لا يلبس غير ذلك اللباس الأبيض، ولو أراد أن يتفنن بلبس غيره مما يملكه فإنه يمنع.
6ـ تربية للناس على القناعة وأنها هي الغنى، فيكفي من اللباس ما يستر العورة، ومن النوم ما يطرد الكسل والعجز، ومن الأكل ما يقيم الصلب.
7ـ تربية للناس على أن أمور الدنيا ليس لها عند الله اعتبار بحد ذاتها، فالناس متساوون في اللباس والأعمال.
8ـ تربية على مبدأ الوحدة الإسلامي في أفعالهم وأعمالهم وأماكن وجودهم وأوقات عباداتهم، وسيأتي للوحدة مزيد بيان.
9ـ تربية للناس على الصبر عن المعصية.
10ـ تربية للناس على الإخلاص والصدق، اللذين هما رأس الأعمال القلبية، وبهما يقبل العمل عند الله ، ويقع الموقع الحسن.
11ـ تربية للناس على التوكل على الله، وتفويض الأمر إليه في أداء العبادة وتسهيلها.
12ـ تربية للناس على التوكل الحقيقي، والذي لا يتعارض مع بذل الأسباب المأمور بها.
13ـ تربية للناس على قهر النفس عما تشتهي ما دام الشرع يحرمه، فالطيب وتغطية الرأس وجميع المحظورات يتركها المسلم مع شهوته لها لا لشيء إلا لأجل تحريم الشرع إياها.
14ـ تربية للناس على التقيد بما قيده الشرع وحدده، ويظهر هذا من خلال المواقيت وتحديدها بالمذكورة ووقت الرمي ووقت الانصراف من عرفة وغير ذلك.
15ـ تربية للناس على الركن الثاني لقبول الأعمال: وهو المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم «خذوا عني مناسككم» (متفق عليه).
16ـ تربية للناس عملية على فقه الخلاف، ويظهر هذا من خلال ما يلي:


أ ـ اختلاف الناس في أنواع النسك.
ب ـ اختلاف الناس في أعمال يوم النحر.
ج ـ اختلاف الناس في الذكر حال الانصراف من منى إلى عرفة، "منا الملبي ومنا المكبر".
د ـ اختلاف الناس حال الانصراف من مزدلفة إلى منى من حيث العجز وعدمه.
هـ ـ اختلاف الناس حال التعجل من مكة أو التأجيل.
و ـ اختلاف الناس حال التقصير أو الحلق، فكل هذه مواقف تربوية للناس على فقه التعامل مع الخلاف والمخالف، ولم ينقل لنا أن الصحابة دار بينهم نقاش واتهام في سبب اختيار نسك على آخر، ولو كان المختار نوعًا مفضولًا وليس فاضلًا.


17ـ تربية للناس على الترتيب والنظام، وأن هذا من ذات الإسلام وليس من خصائص ديار الكفر.
18ـ تربية للناس على أداء العبادة على أكمل وجه وأحسن صورة، ولذلك قال تعالى: { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:من الآية197].
19ـ تربية للناس على التكيف في حال تغير العادة، والوضع الذي تعود عليه الإنسان.
20ـ تربية للناس على الدعاء، ففي المناسك أغلب المواطن السنة فيها أن يدعو المسلم ربه سبحانه.

________________________________________

[1] أي الإسراع.