بين الرؤية واختلاف المطالع

خالد عبد المنعم الرفاعي

اختلفَ أهل العلم قديمًا وحديثًا في الهلال إذا ظهر في بلدٍ دون سائر البلاد، هل يلزم بقيَّة البُلدان العمل به أو لا؟

فذهبَ جمهور أهل العلم إلى أنَّ الهلال إذا رُئيَ في بلدٍ لَزِم جميع البلاد الصَّومُ والعَملُ بتلك الرُّؤية في الصِّيام والإفطار وغير ذلك مِن الأمور التي تتوقَّف على رؤية الهلال؛ فيلزم أهلَ المشرق رؤيةُ أهل المغرب..

  • التصنيفات: ملفات شهر رمضان -


الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وعلى آله وصحبه ومَنْ والاه، ثمَّ أمَّا بعدُ:

فقد اختلفَ أهل العلم قديمًا وحديثًا في الهلال إذا ظهر في بلدٍ دون سائر البلاد، هل يلزم بقيَّة البُلدان العمل به أو لا؟

فذهبَ جمهور أهل العلم إلى أنَّ الهلال إذا رُئيَ في بلدٍ لَزِم جميع البلاد الصَّومُ والعَملُ بتلك الرُّؤية في الصِّيام والإفطار وغير ذلك مِن الأمور التي تتوقَّف على رؤية الهلال؛ فيلزم أهلَ المشرق رؤيةُ أهل المغرب.

وبظهوره -أي الهلال- يجب الصومُ على جميع أقطار المسلمين، وهو مَذهب الحنفيَّة -على المُعتَمَد الرَّاجح عندهم، وهو ظاهر المذهب- ومذهب المالكيَّة في رواية ابن القاسم والمصريون كما قال ابن عبدالبرِّ، ومذهب الحنابلة، وقولٌ عند الشَّافعيَّة، وهو ما رجَّحه شيخ الإسلام ابن تيميَّة والشَّوْكاني والقنوجي، وغيرهما.

واحتجُّوا بأدلَّة كثيرة؛ منها:
- قال الله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]؛ أي: مَنْ شهد استهلال الشهر، وهي رؤية الهلال.
- ما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «صُوموا لِرؤيَتِه وأفطِروا لِرؤيَته، فإن غُبِّيَ عليكم؛ فأكمِلوا عدَّة شعبانَ ثلاثين»، وفي لفظ: «إذا رأيتم الهلال فصُوموا، وإذا رَأيتُموه فأفطِروا، فإن غُمَّ عليكم فعُدُّوا ثلاثين يومًا» (رواه أحمد ومسلم وابن ماجه والنَّسائي).
- وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «صُوموا لِرؤيَته وأفطِروا لِرُؤيته، فإن حال بينكم وبَينه سحابٌ؛ فكمِّلوا العدَّة ثلاثين، ولا تَستَقبِلوا الشهر استِقبال» (رواه أحمد والنَّسائي، والتِّرمذيُّ بمعناه وصحَّحه).
- وعن عائشة رضيَ الله عنها قالت: "كان رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يَتحفَّظ من هلال شعبان ما لا يَتحفَّظُه من غيره؛ يَصوم لِرؤيَة رمضانَ، فإن غُمَّ عليه عَدَّ ثلاثين يومًا ثم صام" (رواه أحمد، وأبو داود، والدَّارقطني، وقال: "إسنادٌ حسنٌ صحيحٌ").
- وعن عبدالرحمن بن زيد بن الخطاب، أنه خطب الناس في اليوم الذي يشكُّ فيه فقال: "ألا إني جالستُ أصحابَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وسألتهم، وإنهم حدَّثوني أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، وَانْسكُوا لها، فإن غُمَّ عليكم؛ فأكملوا ثلاثين، فإن شهد شاهدان؛ فصوموا وأفطروا» (رواه أحمد والنَّسائي).
وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «صوموا لرؤيته» هو خطاب للأمَّة كافَّة، لم يَخُصَّ به أهل قُطرٍ دون غيرهم، فأوجب النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الصَّوم بمُطلَق الرؤية لجميع المسلمين دون تقييدها بمكان، وإن تباعدت الأقطار؛ فمناط الصَّوم هو مطلق الرُّؤية.

ومن المقرَّر أصوليًّا: أنَّ المُطلَق يتحقَّق في أيِّ فرد من أفراده، ويَصْدُق برؤية البعض؛ لأنَّ عمومه بَدَلِيٌّ؛ فاستوى القُرْب والبُعْد بين البلدان في مُطلَق الرُّؤية التي تُعَدُّ علَّة الحُكْم.
-واحتجُّوا أيضًا بما رواه أبو داود والنَّسائيّ عن أبى عُمَيْر بن أنس، عن عُمومَةٍ له من أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّ ركبًا جاؤوا إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَشهدون أنَّهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يُفطِروا، وإذا أصبحوا أن يَغدوا إلى مُصلاَّهم؛ صحَّحه الحافظ ابن حجر في "بلوغ المرام"، وهذا الحديث نصٌّ في محل النِّزاع؛ لأنَّهم رأوا الهلال في غير بلدهم، فإن قيل: الظاهر أنَّ المسافة بين البلدين كانت صغيرة؛ قلنا: فما هو ضابط القرب والبعد؟! ومعلوم أن تحديد مسافة ما يلزمه برهانٌ من الكتاب أوالسنة أو إجماع، وليس في الباب شيءٌ من هذا.
قال شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى": "مَسأَلةُ: (رُؤيةُ بعض البلاد رؤيةٌ لجميعها) فيها اضطراب؛ فإنَّه قد حكى ابنُ عبدالبَرِّ الإجماعَ على أنَّ الاختلاف فيما يُمكِن اتِّفاق المَطالِع فيه، فأمَّا ما كان مثل الأندلُس وخُراسان؛ فلا خلافَ أنَّه لا يُعتبَر.

قلتُ: أحمدُ اعتَمَد في الباب على حديث الأعرابي الذي شهد أنَّه أهلَّ الهلال البارِحة؛ فأمَرَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الناس على هذه الرُّؤية، مع أنَّها كانت في غير البلد، وما يمكن أن تكون فوق مسافة القصر، ولم يَستَفصِله، وهذا الاستدلال لا يُنافي ما ذكره ابن عبدالبر. لكن ما حدُّ ذلك؟ والذين قالوا: "لا تكون رؤيةً لجميعها" كأكثر أصحاب الشافعي؛ مِنهم مَن حدَّد ذلك بمسافة القَصْر، ومِنهم مَن حدَّد ذلك بما تَختَلِف فيه المطالِع: كالحجاز مع الشام، والعراق مع خُراسان، وكلاهما ضعيفٌ؛ فإنَّ مسافة القَصْر لا تَعلُّق لها بالهلال. وأمَّا الأقاليم فما حدُّ ذلك؟

ثم هذان خطأٌ من وجهين:
أحدهما: أنَّ الرؤية تَختلِف باختلاف التَّشريق والتَّغريب؛ فإنَّه متى رُئِي في المشرق وجب أن يُرى في المغرب ولا يَنعَكِس؛ لأنَّه يتأخَّر غروب الشَّمس بالمغرب عن وقت غُروبِها بالمَشْرق، فإذا كان قد رُئي ازداد بالمغرب نورًا وبُعدًا عن الشَّمس وشُعاعها وقت غروبِها؛ فيكون أحقُّ بالرُّؤية، وليس كذلك إذا رُئِي بالمغرب؛ لأنَّه قد يكون سبب الرُّؤية تأخُّر غُروبِ الشَّمس عندهم فازداد بُعدًا وضَوءًا، ولما غَرُبت بالمَشْرق كان قريبًا منها، ثم إنَّه لَمَّا رُئِي بالمغرب كان قد غَرُب عن أهل المَشْرق؛ فهذا أمرٌ محسوسٌ في غروب الشمس والهلال وسائر الكواكب؛ ولذلكَ إذا دخل وقت المغرب بالمغرب -دخل بالمَشْرق، ولا يَنعكِس، وكذلك الطُّلوع: إذا طَلَعت بالمغرب طَلَعت بالمشرق، ولا يَنعكِس؛ فطُلوع الكواكب وغُروبُها بالمشرق سابق.

وأمَّا الهلال: فطلوعه ورؤيته بالمغرب سابق؛ لأنَّه يَطلُع مِن المغرب، وليس في السَّماء ما يَطلُع مِن المغرب غيره، وسبب ظهوره بعدُه عن الشمس؛ فكلَّما تأخَّر غروبُها ازداد بعدُه عنها، فمن اعتبر بُعدَ المساكن مُطلقًا؛ فلم يتمسَّك بأصل شرعيٍّ ولا حِسيٍّ.

وأيضًا فإنَّ هلال الحَجِّ: ما زال المسلمون يتمسَّكون فيه برؤية الحُجَّاج القادمين، وإن كان فوق مسافة القصر.

الوجه الثاني: أنه إذا اعتبرنا حدًّا -كمسافة القَصْر أو الأقاليم- فكان رجلٌ في آخِر المسافة والإقليم، فعليه أن يَصوم ويُفطِر ويَنسُك، وآخَر بينه وبينه غَلْوَة سهم، لا يَفعَل شيئًا من ذلك! وهذا ليس من دين المسلمين.

فالصَّواب في هذا -والله أعلم- ما دلَّ عليه قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «صَومُكم يوم تَصومون، وفِطرُكم يوم تُفطِرون، وأَضحاكم يوم تُضحُّون».

فإذا شهِد شاهد ليلة الثلاثين من شعبان أنَّه رآه بمكان من الأمكنة، قريبٍ أو بعيدٍ؛ وَجَب الصوم، وكذلك إذا شهِد بالرؤية نَهارَ تلك اللَّيلة إلى الغروب؛ فعليهم إمساك ما بَقِي، سواءٌ كان من إقليم أو إقليمَيْن، والاعتبارُ بِبُلوغِ العِلمِ بالرُّؤية في وقتٍ يفيد".

وقال أيضًا: "فالضَّابط أنَّ مَدار هذا الأمر على البُلوغ؛ لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «صوموا لِرُؤيَته»؛ فمن بَلَغه أنَّه رُئِي؛ ثَبَت في حقِّه من غير تَحديدٍ بِمسافةٍ أصلاً، وهذا يُطابِق ما ذَكَره ابنُ عبدالبَرِّ: في أنَّ طَرَفي المعمورة لا يبلُغ الخبَرُ فيهما إلا بعد شهر؛ فلا فائدة فيه، بخلاف الأماكن الذي يَصِل الخبَرُ فيها قبل انسلاخ الشهر؛ فإنَّها مَحَلُّ الاعتبار.

فتَدَبَّر هذه المسائل الأربعة: وجوب الصَّوم والإمساك ووُجوبُ القضاء، ووُجوبُ بناء العيد على تلك الرُّؤية، ورُؤية البعيد، والبلاغُ في وقتٍ بعدَ انقضاء العِبادة. ولهذا قالوا: "إذا أخطأ الناس كلُّهم فوقفوا في غير يوم عرفة أجزأهم اعتبارًا بالبُلوغ، وإذا أخطأه طائفة منهم لم يُجزِئهم؛ لإمكان البُلوغ؛ فالبُلوغ هو المُعتَبَر، سواء كان عُلِم به للبُعْد أو للقلَّة؛ فإنَّه لا وُجوب إلاَّ مِن حين الإهلال والرُّؤية، لا مِن حين الطُّلوع، ولأنَّ الإجماع الذي حَكاه ابنُ عبدالبَرِّ يدُلُّ على هذا؛ لأنَّ ما ذَكَره: إذا لم يَبلُغ الخبرُ إلا بعد مُضيِّ الشهر لم يَبقَ فيه فائدة إلاَّ وُجوبُ القضاء، فعُلِم أنَّ القضاء لا يجب برؤيةٍ بعيدةٍ مُطلقًا.

فتَلخَّص: أنه من بلغه رؤية الهلال في الوقت الذي يُؤدِّي بتلك الرؤية الصومَ أو الفِطرَ أو النُّسُكَ -وجب اعتبارُ ذلك بلا شك، والنُّصوص وآثار السَّلف تَدُلُّ على ذلك. ومن حدَّد ذلك بمسافة قصر أو إقليم؛ فقوله مخالِفٌ للعقل والشَّرْع. ومَن لم يبلُغه إلاَّ بعد الأداء، وهو ممَّا لا يُقضى؛ كالعيد المفعول والنُّسُك- فهذا لا تأثير له، وعليه الإجماع الذي حكاه ابن عبدالبرِّ".

ثم قال: "فهذا متوسطٌ في المسألة، وما من قولٍ سواه إلاَّ وله لوازم شنيعة، لا سيَّما مَن قال بالتَّعدُّد؛ فإنَّه يلزمُه في المناسك ما يُعلَم به خلافُ دين الإسلام؛ إذ رأى بعضُ الوفود أو كلُّهم الهلال وقدِموا مكَّة، ولم يكن قد رُئي قريبًا مِن مكَّة، ولما ذكرناه مِن فساده صار متنوِّعًا، والذي ذكرناه يَحصُل به الاجتماع الشَّرعي؛ كلُّ قوم على ما أمكنهم الاجتماع عليه، وإذا خالفهم مَن لم يَشعُروا بمخالفته لانفراده مِن الشعور بما ليس عندهم لم يَضُر هذا، وإنَّما الشأن مِن الشُّعور بالفُرقة والاختلاف". ا هـ.

هذا؛ وذهب آخَرون إلى اعتبار اختلاف المَطالع، وأنَّه لا يلزم أهل بلد رُؤية غيرها من البلاد، وهو وجهٌ عند الشَّافعيَّة؛ وتمسَّكوا بحديث كُرَيب الذي رواه الجماعة إلاَّ البخاري وابن ماجه: أنَّ أمَّ الفضل بعثته إلى معاوية بالشام، فقال: "فقدِمتُ الشَّامَ فَقَضيتُ حاجتها، واستهلَّ عليَّ رمضان وأنا بالشام؛ فرأيت الهلال ليلةَ الجُمُعة، ثم قدِمت المدينة في آخِر الشَّهر، فسألني عبدالله بن عباس، ثم ذكر الهلال فقال: "متى رأيتم الهلال؟" فقلت: رأيناه ليلة الجُمُعة، فقال: "أنت رأيتَه؟!" فقلتُ: نعم، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية! فقال: "لكنَّا رأيناه ليلة السبت؛ فلا نزال نصوم حتى نُكمِل ثلاثين أو نراه". فقلتُ: ألا تَكتفي برؤية معاوية وصيامِه؟ فقال: "لا، هكذا أمرنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم".

ووجه الاحتجاج به: أنَّ ابن عباس لم يَعمَل برؤية أهل الشَّام، ثم قال في آخِر الحديث: "هكذا أمرنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم"، فدَلَّ ذلك على أنَّه قد حفِظ مِن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أنَّه لا يَلزَم أهل بلدٍ العملُ برؤية أهل بلدٍ آخَر.

وقد أجاب الجمهور عن حديث كُرَيب بأجوبة، منها:
أن ابن عباس لم يذكر المرفوع ولا معناه لينظر فيه؛ فالظَّاهر أنَّه اجتهادٌ منه، وليس نقلاً عن الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم؛ قال العَلاَّمة ابن دقيق العيد في "إحكام الأحكام، شرح عمدة الأحكام": "ويمكن أنَّه أرادَ بذلكَ هذا الحديث العام، لا حديثًا خاصًّا بهذه المسألة، وهو الأقرب عندي". ووجه كلامه: أن المرفوع من في أثر كريب لا يدل على ما ذهب إليه، وإنما هو مساوٍ لأدلة الجمهور. وهو التزام مطلق الرُّؤية، وما زاد عن ذلك فهو اجتهادٌ من ابن عباس، لا يصلح أن تُقيَّد به الأدلَّة المطلَقة. وأيضًا فإن ابن عباس قال: "لا هكذا أمرنا رسول الله"، فاحتمل أنه أمرنا بالصوم بالرؤية، أو أن لكل بلد رؤيته، أو أن أهل المدينة لا يعملون برؤية أهل الشام. ومعلومٌ أن ما تطرق إليه الاحتمال لبس ثوب الإجمال، وسقط به الاستدلال.

قال الإمام الشَّوْكاني: "واعلم: أنَّ الحُجَّة إنَّما هي في المَرفوع مِن رواية ابن عباس، لا في اجتهاده الذي فَهِم عنه النَّاسُ، والمُشار إليه بقوله: "هكذا أمرنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلم"، هو قوله: «فلا نزال نَصوم حتى نُكمِل ثلاثين»، والأمر الكائن من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم هو ما أخرجه الشَّيْخان وغيرهما بلفظ: «لا تَصوموا حتى تَروا الهلال، ولا تُفطِروا حتى تَروه، فإن غُمَّ عليكم؛ فأكمِلوا العِدَّة ثلاثين»، وهذا لا يَختصُّ بأهل ناحيةٍ على جهة الانفراد؛ بل هو خطابٌ لكلِّ مَن يصلُح له منَ المسلمين؛ فالاستدلال به على لُزوم رؤية أهل بلدٍ لغيرهم من أهل البلاد أظهَر من الاستدلال به على عدم اللُّزوم؛ لأنَّه إذا رآه أهل بلدٍ فقد رآه المسلمون، فيُلزِم غيرهم ما لَزِمهم، ولو سُلِّم توجُّه الإشارة في كلام ابن عباس إلى عدَم لُزوم رؤية أهل بلدٍ لأهل بلدٍ آخَر؛ لكان عدم اللُّزوم مُقيَّدًا بدليل العَقل: وهو أن يَكون بين القُطْرَيْن مِن البُعد ما يجوز معه اختلاف المَطالع، وعدم عمل ابن عباسٍ برؤية أهل الشَّام مع عدم البُعد الذي يمكن معه الاختلاف في عملٍ بالاجتهاد، وليس بحُجَّة، ولو سُلِّم عدم لزوم التَّقييد بالعقل؛ فلا يشكُّ عالِمٌ أنَّ الأدلة قاضِيَةٌ بأنَّ أهل الأقطار يَعمَل بَعضُهم بخبر بعضٍ وشهادته في جميع الأحكام الشَّرعيَّة، والرُّؤية مِن جُملَتِها، وسواءٌ كان بين القُطْرَيْن منَ البُعد ما يجوز معه اختلاف المَطالع أم لا؛ فلا يُقبَل التَّخصيص إلا بدليل، ولو سُلِّم صلاحيَّة حديث كُرَيب هذا للتَّخصيص؛ فينبغي أن يَقتَصِر فيه على مَحَلِّ النَّص إن كان النَّصُّ معلومًا، أو على المفهوم منه إن لم يَكن مَعلومًا؛ لوُروده على خلاف القياس، ولم يأتِ ابنُ عباس بلفظ النَّبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- ولا بمعنى لفظه حتى نَنظُر في عمومه وخصوصه، إنَّما جاءنا بصيغة مُجمَلة أشار بها إلى قِصَّة هي عَدَم عمل أهل المدينة برؤية أهل الشَّام، على تَسليم أنَّ ذلك المراد، ولم نَفهَم منه زيادة على ذلك حتى نجعله مُخصِّصًا لذلكَ العموم؛ فينبغي الاقتصار على المَفهوم مِن ذلك، الوارد على خلاف القياس وعدمُ الإلحاق به؛ فلا يجب على أهل المدينة العَمَل برؤية أهل الشَّام دون غيرهم، ويمكن أن يكون ذلك في حِكمة لا نَعقِلُها، ولو نسلِّم صحَّة الإلحاق وتخصيص العموم به فغايتُه أن يكون في المحَلاَّت التي بينها مِن البُعد ما بين المدينة والشَّام أو أكثر، وأمَّا في أقلَّ من ذلك فلا، وهذا ظاهرٌ".

ومما سبق؛ يَتَبَيَّن أنَّ الراجح هو مذهب الجمهور في وجوب العمل بالرؤية إذا ظهر في أي بلدٍ كان، وأنهُ لا عبرة باختلاف المطالع.